كتب أحمد أبو رتيمة في مقال رأي نشره ميدل إيست آي أنّ غزة تبدلت إلى الأبد بعد نحو عامين من العيش على حدود ما يمكن أن يحتمله البشر. وصف الكاتب كيف صار حتى الصوت المتواصل للطائرات المسيّرة الإسرائيلية يكفي لتحطيم الأعصاب، وكيف ينهار الوعي الجمعي تحت ضغط لا ينقطع. وأكد أنّ جروح الروح في غزة لا تُقاس بالأرقام ولا تلتقطها نشرات الأخبار، بل تحفر جرحا في إنسانية الناس.

يوضح المصدر وهو ميدل إيست آي أنّ الاحتلال يتعمد إعادة هندسة المجتمع عبر استهداف الأكاديميين والأطباء والصحفيين والشخصيات العامة، في محاولة لاقتلاع القيادة الفكرية والاجتماعية. وفي الوقت نفسه يطلق سياسة خبيثة: إدخال شاحنات غذاء محدودة تحت ضغط دولي، ثم تركها عرضة للنهب، ما يخلق طبقة جديدة من اللصوص الذين يثرون على حساب الجوع الجماعي. وبذلك يواجه المثقفون والأطباء والمعلّمون خطر الموت جوعًا إذا لم يتسابقوا مع الفوضى للحصول على فتات الطعام.

يرى الكاتب أنّ هذه السياسات تعيد المجتمع إلى أسفل سلّم البقاء، وتجبر المحترمين على السعي خلف لقمة رديئة، بينما تتقدّم جماعات مسلّحة مفككة لا تنتمي إلى قيم الجماعة. في هذه البيئة، يتشوّه وعي الأطفال. يصف مشهدًا لفتاة تصرخ: "لنقذف الحجارة على الشاحنة"، فيما تحذّر أخرى من وجود مسلحين، لترد ثالثة: "لا نخاف منهم". ويعلّق بأنّ هذا التشويه للطفولة ليس قضاءً طبيعيًا، بل نتيجة مباشرة لسياسة الاحتلال التي دمّرت مؤسسات توزيع المساعدات، ونشرت الفوضى لتعطيل أي نظام اجتماعي منظم.

ويضيف أنّ إسرائيل هاجمت المؤسسات الإنسانية نفسها التي كانت تنظم الإغاثة، لتغرق غزة في الفوضى وتدفع المجتمع إلى الانحدار نحو الوحشية. وفي مواجهة هذه الكارثة، اختارت القوى الدولية حلولًا شكلية مثل الإسقاط الجوي للمعونات. يصف الكاتب هذه المشاهد بأنها "عرض إعلامي" لا أكثر، إذ لا تكفي حمولة طائرة واحدة لتعويض احتياج غزة اليومي البالغ نحو 500 شاحنة. ويشير إلى أنّ الأطفال يصفقون لرؤية طائرات لا تلقي قنابل، في إشارة إلى الفارق النفسي بين سماء الموت وسماء تُلقي شيئًا غير قاتل، ولو كان بلا جدوى عملية.

ثم يتساءل: كيف يمكن قياس الدمار الذي أصاب أرواح أطفال غزة؟ يروي حوارًا مع ابن شقيقه مؤيد (9 أعوام) الذي سأله: "متى تنتهي الحرب؟" فأجابه: "لا أعرف". وعندما سأله الطفل عمّا سيفعل بعد توقف الحرب، قال إنه يريد العودة إلى رفح. وحين تذكّره العم بوجود الجيش هناك، اقترح مؤيد ببساطة العودة إلى مدينة حمد وإعادة بناء البيت المدمر "من الركام بدلًا من الإسمنت". يعلّق الكاتب بأنّ العالم بحاجة إلى التفكير ببراءة الأطفال لا ببرودة الحسابات السياسية.

كما تحلم الطفلة رؤى، شقيقة مؤيد، بأن يعود البيض إلى بيتها. تقول لأمها بحماس: "عندما تدخل البيضات، أريد أن أكلها بكل الطرق: مسلوقة، مقلية، مع الطماطم، مع البطاطس". لكن هذا الحلم البسيط يظل مؤجلاً، مثل غيره من أحلام أطفال غزة الذين لم يذوقوا البيض أو الحليب أو اللحم منذ أكثر من خمسة أشهر.

يخلص المقال إلى أنّ الاحتلال لا يكتفي بالقتل المباشر، بل يشن حربًا على المجتمع من الداخل، مستخدمًا الجوع والنهب وانهيار القيم لتقويض ما تبقى من إنسانية الفلسطينيين. في ظل غياب خطوات سياسية حاسمة لوقف هذا الانهيار الشامل، تبقى غزة نموذجًا على تواطؤ العالم وصمته أمام جريمة مكتملة الأركان ضد الإنسان والطفولة.

https://www.middleeasteye.net/opinion/hunger-looting-and-lost-childhoods-gazas-engineered-collapse